حين قررت السفر، لم يكن القرار سهلاً على الإطلاق. كنت أعيش وسط عائلتي، في دفء بيتٍ يعرف اسمي، وفي شوارعٍ تحفظ خطواتي. غير أن الطموح، والرغبة في مستقبلٍ أفضل، دفعتاني إلى حزم أمتعتي ومغادرة الوطن، لأبدأ رحلة الغربة.
وصلتُ إلى بلدٍ لا أعرف فيه أحدًا. كانت اللغة مختلفة، والعادات غريبة، والوجوه لا تشبه ما اعتدته. في الليالي الأولى، شعرت بوحدة خانقة. كنت أعود إلى غرفتي الصغيرة بعد يومٍ طويلٍ من العمل أو الدراسة، أتناول طعامي بصمت، وأحدث نفسي كما لو كنت أبحث عن رفيق.
مرت الأسابيع، وكانت كل يومٍ يحمل في طياته تحديًا جديدًا. واجهت صعوباتٍ في التفاهم مع الآخرين، وفي التعامل مع القوانين الجديدة، وحتى في طهي الطعام الذي أفتقد طعمه في بيت أمي. كنت أقاوم الاشتياق، أقاوم الدموع، وأحاول أن أبدو قويًا رغم هشاشتي في الداخل.
وفي أحد الأيام، تعرضت لموقف صعب. فقدت عملي فجأة بسبب ظروف إقتصادية، ولم أكن أملك مدخرات كافية. شعرت أن الغربة التهمتني تمامًا، وأنني أصبحت بلا سند. فكرت بالعودة، بل كدت أحجز تذكرةً دون تفكير، لكن شيئًا ما بداخلي قال: “لقد قطعت كل هذا الطريق، لا تعود الآن”.
بدأت أبحث عن عمل جديد، طرقت أبوابًا كثيرة، وتعلمت مهاراتٍ جديدة لم أكن أعرف أنني أمتلكها. عملت في مطعم، ثم في مكتبة، ثم حصلت على تدريب في مجال تخصصي. كنت أتعلم من كل تجربة، وأنمو بصمت. بدأت أكون صداقات بسيطة، ثم أوسع دائرتي، ووجدت نفسي بين أناسٍ أصبحوا مع الوقت كعائلتي الصغيرة في الغربة.
مرت السنوات، وتبدلت الأحوال. أصبحتُ مستقراً، وبدأت أحقق نجاحاتٍ صغيرة تراكمت حتى صنعت لي اسمًا. واليوم، أنظر إلى الوراء فأبتسم. نعم، كانت الغربة قاسية، وكان الطريق طويلاً ومظلماً في بدايته، لكنني خرجت منها أقوى. تعلمت الصبر، والاعتماد على النفس، وتعلمت أن السعادة قد تأتي بعد معاناة، وأن النهاية السعيدة لا تُهدى، بل تُنتزع بعرق القلب وإصرار الروح.
الغربة علّمتني أن أوطن قلبي في كل مكان، وألّا أربط سعادتي بمكانٍ واحد، بل بأن أكون في سلامٍ مع نفسي مهما ابتعدت عن كل شيءٍ أعرفه. واليوم، ورغم كل شيء، أقولها بيقين: كانت الغربة مؤلمة، لكنها كانت أجمل درس في حياتي.